وحدة السودان- دروس من اتحاد مزارعي جبال النوبة

المؤلف: حافظ أحمد مالك08.18.2025
وحدة السودان- دروس من اتحاد مزارعي جبال النوبة

في ظل نداء سفير السودان لدى الولايات المتحدة، نور الدين ساتي، الذي يؤكد على ضرورة تصحيح مسار العلاقة بين المؤسسة العسكرية والكيانات المدنية، وإزالة أسباب الخلاف العميق بينهما، واستلهامًا من حكمة الشيخ محمد سيد حاج الراحل، الذي قال: "خلافات السياسيين تعذب شعوبهم"، أتوجه بدعوتي الصادقة إلى القوى المدنية قاطبةً (بما يشمل الحركات المسلحة)، والمكون العسكري برمته (وخاصةً المنتسبين إلى المؤتمر الوطني): تجردوا مؤقتًا من عباءاتكم الحزبية، واتفقوا على الأسس الراسخة التي يقوم عليها الوطن، لتنعموا شعب السودان المنكوب، مع احتفاظ كل طرف منكم بخياراته وتوجهاته الخاصة في المجالات الأخرى التي تتعلق بالتنافس الحزبي الديمقراطي وممارسة العمل السياسي.

إليكم البرهان الساطع على كيفية إسعاد شعب السودان:

يكمن البرهان في النهج الفريد الذي تبناه قادة اتحاد مزارعي جبال النوبة في الماضي لتوحيد أبناء جبال النوبة، على اختلاف أصولهم العرقية وتوجهاتهم السياسية، وتحقيق أهدافهم النبيلة في مسيرة امتدت لما يقارب الثلاثة عقود. فما هي ملامح هذا الأسلوب المتميز؟

التخلي عن الانتماءات الحزبية من أجل الصالح العام

يذكر السيد عبد الرحيم الماظ، وهو أحد القادة المؤسسين لاتحاد مزارعي جبال النوبة، في لقاء صحفي: "كان الاتحاد يضم في قيادته جميع الأحزاب السياسية بلا استثناء، إلا أن رئيس الاتحاد، المغفور له أحمد مالك، كان يشدد دائمًا على أن "يتخلى كل عضو عن انتمائه الحزبي خارج مقر الاتحاد"، وأن يدخل إلى دار الاتحاد بصفته مزارعًا فحسب (وكأنه يدخل بملابس المزارع البسيطة) ويناقش قضية واحدة بعينها، ألا وهي قضية المزارعين". ونتيجة لهذا النهج الرشيد، ساد في اتحاد مزارعي جبال النوبة جو من التآلف والانسجام لم تظهر فيه أي نزعات سياسية على الإطلاق، وأصبحت هذه السمة المميزة علامة فارقة للاتحاد.

المنهج المبتكر الذي اتبعه قادة اتحاد مزارعي جبال النوبة يتمثل في: تغليب المصلحة الوطنية العليا على المصالح الحزبية الضيقة

إنجازاتهم الباهرة بفضل هذا النهج:

قبل الزيادة في سعر القطن، دخل الاتحاد قبل تسجيله رسميًا عام 1956 -خلال فترة الحكم الاستعماري- في إضراب شامل عن بيع القطن حتى يتم رفع سعره، واستمر الإضراب ثلاثة أيام متواصلة، وبعدها تم رفع أسعار القطن من 42 قرشًا للقنطار الواحد إلى 320 قرشًا. وأطلق المزارعون على تلك السنة اسم "سنة خمي" تعبيرًا عن الارتفاع الكبير والمفاجئ في الأسعار والأرباح الطائلة التي جنوها.

ومن الإنجازات القيّمة التي تحققت بفضل ارتفاع أسعار القطن، تعزيز وعي المزارعين بحقوقهم المشروعة، حيث تمكن الاتحاد من الدخول في شراكة مثمرة مع الحكومة في أرباح القطن، وتنفيذ مشروعات التحديث الزراعي الطموحة في فترة الخمسينيات، فضلاً عن مساهمة الاتحاد الفعالة في دفع مسيرة مؤسسة جبال النوبة الزراعية.

وأيضًا من الإنجازات الجديرة بالذكر، كما أشار الراحل الفاتح النور، رائد الصحافة الإقليمية في السودان، في كتابه القيم عن جريدة كردفان بعنوان "كردفان خلف الأخبار والحوادث"، زيادة الوعي الاقتصادي بين المزارعين وتنامي وحدتهم وتكاتفهم. وقد تجلى انزعاج المفتش الإنجليزي من الاتحاد بسبب الوعي الاقتصادي الذي أوجده الاتحاد في صفوف المزارعين، بالإضافة إلى توحيدهم حول هدف واحد وكيان واحد، وهو ما كان يتعارض مع سياسة المفتش الإنجليزي، الذي كان يتعامل مع مزارعي كل منطقة على حدة. وبالتالي، تزايدت مخاوفه من تحول الأمر من وضع زراعي اقتصادي إلى وضع سياسي. ولهذا سعى المفتش جاهدًا إلى تعطيل الاتحاد عن القيام بهذا الدور، إلا أنه باء بالفشل الذريع.

ومن الإنجازات الأخرى توحيد قضية المزارعين على مستوى السودان بأكمله، وتأسيس اتحاد مزارعي السودان بناءً على اقتراح من المرحوم أحمد مالك، وذلك بعد ثورة أكتوبر المجيدة عام 1964.

كذلك من الإنجازات الملموسة تأسيس الاتحاد العام للفلاحين العرب استجابة لفكرة نبيلة طرحها السيد أحمد مالك في لقاء مع جريدة الرأي العام عام 1969، حيث أشار إلى ضرورة إنشاء اتحاد عام للمزارعين في الدول العربية والأفريقية. وقد تبنت تنظيمات المزارعين في العراق هذا المقترح البناء، ووجهت دعوة رسمية لأحمد مالك في كادقلي لزيارة العراق، وتمت الزيارة في العام نفسه، وتم خلالها الاتفاق على إنشاء تنظيمات للمزارعين في كل دولة، وبعدها تم تأسيس الاتحاد العام للفلاحين العرب.

وضع اللبنات الأساسية للعلاقات الرسمية بين السودان والصين

يذكر الراحل أحمد مالك في مذكراته القيمة: "في الفترة ما بين 1958 و1965، بعد أن تم الإعلان عن قيام الاتحاد العام لمزارعي السودان (الاتحاد الأول)، بادر اتحاد النقابات الصيني بدعوة الاتحاد العام لمزارعي السودان لأول مرة في التاريخ لزيارة جمهورية الصين الشعبية. وقد تمت الزيارة بوفد ترأسته وعضوية 5 آخرين، واستغرقت الزيارة 40 يومًا".

وباتباع الاتحاد لأسلوب "التخلي عن الانتماءات الحزبية"، نستخلص عدة دروس مستفادة، منها:

الشجاعة النادرة في المطالبة بالحقوق:

يقول الفاتح النور: "كانت منطقة جبال النوبة في عهد الاستعمار من المناطق المحظورة تمامًا مثل جنوب السودان! وكانت الرقابة على الأنشطة النقابية مشددة ودقيقة للغاية، والعقوبات غير معروفة، إلا أن اتحاد المزارعين ظل يعمل متحديًا لحكومة الاستعمار، رغم الاعتقالات التي طالت قادته، ثم السجن والغرامات، دون أن يتزعزع أو ينكسر".

الحفاظ على وحدة السودان:

"ومما يجهله الكثيرون.."، كما يقول الراحل الفاتح النور، "أن اتحاد مزارعي جبال النوبة كان له فضل عظيم في الحفاظ على وحدة البلاد. فقد كان المخطط الاستعماري يهدف إلى ضم الجبال إلى الجنوب، وتم التخطيط لكل شيء لتحقيق هذا الهدف، ولكن بفضل تكوين اتحاد المزارعين، ذلك الاتحاد الذي ربط مصالح المزارعين حتى جنوا ثماره أموالاً طائلة وخيرًا ينمو في مجتمعهم ومودة صادقة تربط بينهم، فقد أفشل هذا المخطط تمامًا! وقد كانت آخر محاولة سافرة للاستعمار لتحقيق التفرقة بين الجبال والشمال تلك التي قام بها مستر كرول، آخر باشمفتش لجبال النوبة قبل استقلال السودان، عندما عقد اجتماعًا حاشدًا لكبار القوم في منطقة "جبال الريكة" وحضره وأداره بنفسه.

وطلب من الحضور التخلي عن "اتحاد مزارعي جبال النوبة" لأنه "ملكية أولاد الجلابة"، وأكد لهم استعداده لمساعدتهم في إنشاء اتحاد جديد للمزارعين يكون من أبناء النوبة (أهل البلد)! ولكن أحد أبناء النوبة (ضابط متقاعد) رد عليه قائلاً: (اتحاد المزارعين لم يضرنا بشيء، بل زاد من سعر القطن وجمع كلمة المزارعين وحقق الأخوة بينهم، وكيف تدعونا الآن بعد أن حفرنا البئر ولمسنا بأيدينا الماء لنتركه ونحفر بئرًا أخرى؟). وانفض الاجتماع بعد فشله، وتوعد مستر كرول بالانتقام، إلا أن انتفاضة الاستقلال سبقته".

مسامحة الخصوم وتقديم الدعم لهم:

يقول السيد الشيخ توتو، وهو أيضًا أحد مؤسسي الاتحاد: "في العام 1979، تم اعتقال قيادة اتحاد مزارعي جبال النوبة بسبب وشاية كاذبة من مسؤول كبير بمحافظة كادقلي كان ينافس في قيادة الاتحاد. وقد استمر الاعتقال لمدة 63 يومًا، وبعدها تم الإفراج عن قيادة الاتحاد بعد أن تأكدت الأجهزة الأمنية من براءتهم مما نسب إليهم".

ويضيف السيد توتو: "وعلى الرغم مما حدث، فإننا قمنا بعد ذلك بمسامحة من تسبب في اعتقالنا، بل وقفنا معهم في انتخابات الدوائر الجغرافية لمجلس الشعب التي جرت في تلك الفترة بمحافظة كادقلي، حتى إن أحد مرشحيهم قال لي: (كيف تقفون معنا بعد الذي فعلناه بكم؟!!)، فأوضحت له أننا نهتم بمصلحة المنطقة بصفة عامة".

أخيرًا..

الدعوة موجهة إلى المكونين المدني والعسكري لتطبيق قاعدة "التخلي عن الانتماءات الحزبية أمام ثوابت الوطن".

وحيث أن ثوابت الوطن في الوقت الراهن تتمثل في ترسيخ الحكم الديمقراطي، وهو ما أثبت المكون المدني سعيه الدؤوب إليه، على عكس المكون العسكري، الذي أثبت بانقلابه الأخير، والقرارات التي اتخذها بعده، وخاصة تلك المتعلقة بلجنة إزالة التمكين وإعادة المفصولين إلى الخدمة، أنه يسعى إلى إعادة السلطة إلى النظام السابق المرتبط به، فإن هذه الدعوة موجهة بشكل خاص إلى المكون العسكري.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة